في كل عام يحتفي موقع بالنده (أي الطائر) باللغة الكردية، بالشعر واليوم العالمي للشعر. في العام الماضي اختار الشاعر الدانماركي (بايك مالينوفسكي) ليوجه رسالة الى العالم. واختار في هذا العام الشاعر والروائى الكردي بختيار علي ليوجه خطابه و رسالته إلى عشاق الشعر.
بختيار علي من مواليد 1960 مدينة السليمانية – كردستان العراق. من جيل الثمانينيات في الشعر الكردي الحديث، لعب دورا في إثراء قصيدة النثر في الشعر الكردي. طُبعت أعماله الشعرية الكاملة في السليمانية. تُرجمت رواياته الى الفارسية والالمانية والانكليزية، ومؤخرا الى العربية. نال جائزة نيلي زاكس الألمانية عن رواياته المترجمة. حاليا يقيم في المانيا.
ماذا يطرح الشعراء في عالم يفقد قِيَمه الإنسانية، وعلى أي وتر يضرب الشعراء اليوم، وما مهمة الشعر؟
إن بالْنْدَه كموقع شعري سيكون وفيا للشعر والشعراء أينما كانوا.
في مدیح شعر یمکن أن یکون حدیثا
علی نحو مطلق دائما
بَخْتيار علي
في کل مرة یتجدد هذا السؤال: لماذا ضرورة الشعر؟
وَلِمَ لا یمکن ولن یکون أن نتخلی عن الشعر؟ إنه سؤال مکرر وسرمدي یبحث في کل یوم عن جواب جدید.
نحن أبناء وجیل زمن کلما تقدم خطا نحو اللآجدوى. ویغفل الأنسان في معظم الأنشطة نفسه عن الأسئلة الکبیرة والهامة. لقد خلت حیاة الإنسان عن الأسئلة حول ماهیة الجمال ومعنی الحیاة والزمن، انهم یتسرعون في لهفة للوصول إلی نوع من ((الطمأنینة الحمقاء))، وسعادة تقوم علی حساب إغفال التفکیر والتأمل في الجمال. لقد تغلغلت السطحیة والبساطة في معظم المجالات،کما ان الشعر نفسه لیس بمنأی عن تلک المخاطر الجسیمة. إنه في خطر إسوة بباقي الأشیاء. لا یمکن فصل حال الشعر عن الأوضاع العامة للبشر، إن إنسانا لامسؤولا لا یحترم الطبیعة وجمال الحیاة یهون علیه أن یحدو بالشعر إلی الموت والتسطیح، فالشعر أینما کان فهو في مهب مخاطر کبیرة.
منذ عقود کثیرة، تُعزى معظمُ أسباب الأحداث الجسيمة الی تسلط و غلبة عقلانیة علمیة محددة، الی تلوث الحیاة وتخديرها بالالآت والتکنولوجیا. یوما بعد یوم تزداد وتشتد ضرباتُ لغةِ العلم ولغة السیاسة ولغة الإعلام الموجهة الی اللغة نفسها. إننا في خضم عملیة عقلنة اللغة بشکل متواصل، فالناس یکتفون من اللغة بما یسد حاجاتهم الیومیة، ویوما بعد یوم تُحولُ السیاسةُ والإعلامُ والعلمُ اللغةَ الی أدوات و وسائل التسلط والتحدید وتخنق الکلمات بمدالیل ووظائف مقننة ومحددة، وتنأی اللغة عن شکلها الطبیعي. ففي دنیا الیوم لم تعد أتمتة الإنسان عن طریق أتمتة اللغة مجرد طرح وحکایة خیالیة، بل هي عملیة دائمة لتحریمهم من اللغة. وفي کل أنحاء العالم تُقَولَبُ اللغةُ والإنسانُ ومشاعره.
فيما مضی قال روسو (یولد الإنسان حرا، لکنه الیوم یقید بالأغلال في کل مکان)، إن أخطر وأکبر ما توصف به الیوم علاقة الإنسان واللغة هو (تولد اللغة حرة، لکنها تُقیدُ في جمیع الأماکن).
لیست اللغة بوحدها ضحیة عالمنا، ثمة آلة کبیرة تنشغل بتوجیه الخیال کی لا یظهر وجهه الثوري والرادیکالي. ففي الیوم یُستغَلُ الخیالُ ویتم توجیهه کیفما شاءوا، کما اللغة تماما.
في عالم الیوم لا یُعلمُ الأطفالُ الصغار القراءةَ والکتابةَ، بل يُوجَه خیالُهم ويقنن علی نحو أکثر. هناك آلة کبیرة مکونة من الإعلام والسینما والعلوم تُروِضُ خیالَ الناسِ وتمنحُ أحلامَنا طابعا خاصا.
یُوجَه خیالُ الناس منذ طفولتم نحو السلع والأشیاء، و رویدا رویدا یموت الخیال الخلاق ویتحول الی قوة تنشیء وتخلق انسانا مُستهلِکا. إن الخیال یضاهي العقل ویوازیه في أبعاده المنتجِة والمغامِرة والمکتشِفة، فإن لم تکن کشوفات الخیال في تاریخ البشریة أهم من کشوفات العقل، فانها لم تکن أقل أهمیة منها، لکن خیال الأنسان في هذا الزمن وفي کل مکان يتعرض الی تشویه دائم مبرمج.
فضلا عن هذه المخاطر الخارجیة المفروضة علی اللغة والخیال یتعرض الشعر في داخله إلی اشکالیة شعرية دامت حتی الیوم،وهي تحویر الشعر الی شیء ذاتی محض، الی ضرب من الشعر یکتفي بالضرب علی أوتار العواطف البسیطة للإنسان، وينظر معظم الناس الی الشعر وکأنه مخزن للمشاعر السائدة البسیطة. إن عدم فهم ماهیة الشعر یجعل من الشعر سلاحا في قبضة العاطفة الیومیة السائدة. ویُعزی سببُ هذه الحالة الی الفهم الخاطیء الذي یحیط بالشعر، إذ یُعد وسیلة للتعبیر فقط في نظر هؤلاء ومن هنا تحتکره العواطف الضئیلة والأحاسیس الیومیة وكأنه مستعمرة لهم، وهذا بالتأکید یُقیدُ الشعرَ بین جدران ذاتیة عابثة تُنسیه أطیاف العالم وتَنَوِعها.
قبل أن یکون الشعر وسیلة للتعبیر، فإنه وسیلة للکشف والتجاوز. ولاینسی أن الشعر لیس بمقدوره الإبتعاد عن الذات أبدا، ولکن ینبغي أن تکون ذاتا شعریة هائجة لا تعمل علی الأشیاء الظاهرة والمعطیات الملموسة، ولاتُنتج المنتَجَ سابقا، إنها ذات خلاقة تعمل علی التجاوز والتخطي وتشویه الرؤی الجاهزة.
من المخاطر الأخری التي تواجه الشعر، هي السعي الدائم لفصله وإبعاده عن الفکر. إن نفي وقطع العلاقة القائمة بین الشعر والفلسفة، بین الشعر والأسئلة الکبری، یقود الشعر ویسوقه صوب الخواء والموت، ولاشك في أن الشعر السیاسي والعاطفي ساق هذا الجنس الأدبي نحو الفقر والجدب. لقد کان استخدام الشعر أداة سیاسة، علی حساب فصل الشعر عن الأبعاد الفکریة العمیقة، علی حساب إبعاد الشعر عن الأسئلة الکبری غیر المقیدة بالزمن والمکان، فالیوم یفقد الشعر السیاسي أي أهمیة تذکر، لأن السیاسة نفسها تمتلک قنوات إعلامیة کبیرة، ومن هنا فقد الشعر کسلاح سیاسي أهمیته. الیوم یثبت الشعر تلک الحقیقة الجوهریة علی نحو أکثر التي تفید أنه مستقل تماما وینبغي أن یستعیر عوالمه ورؤاه من أماکن أخری، فلم یعد الشعر وسیلة للتعبیر عن السیاسة والعاطفة واستهلاکهما، بل تقع علی عاتقه مهمات أصعب تکمن في النظر الی جمیع التجارب الإنسانیة والتأمل في مکان الإنسان ومكانته و واجبه علی هذا الکوکب. ورغم المخاطر المحدقة بالشعر لکنه لایزال باقیا یتحدی المخاطر کسلاح الأمل.
إن الشعر أداتنا الوحیدة، بوسعه أن یُعدَ اللغةَ کوحدة لامتناهیة، إنه عودة أبدیة صوب الکلمة قبل أن یحمل أي دلالة أخری، یعني انه إحیاء متواصل للدال وتحریره من کل دلالة ثابتة. لیس الشعر عودة الی لاوعي جمعي، حسب تعبیر السوریالیین القائلین انه منطقة تثوی فیها تجارب الإنسانیة كلها، بل انه عودة الی اللغة قبل أن یقیده استعمالٌ ذو بعد واحد في إطار معنی محدد. ولیس هذا عودة إلی الصفاء والبراءة، مثلما یدعو الیه البعض في بعض الأحایین.
فالشعر یعمل ویزدهر ویتحرک خارج تلک الأحکام الأخلاقیة. ويرى الشاعر انه من حقه أن یجرب کل شیء إنساني، وإن دل هذا علی شیء إنما یدل علی أن المعاییر الداخلیة للشعر “تجربة متواصلة” و “عودة أبدیة الی البدایات”.
البراءة والصفاء في الشعر، هي أن نعيد دائما کل شیء إلی مرحلة تسبق میلاد “المعنی” فالمعنی في الشعر دافع ولیس غایة. فالطهارة هنا ليست التطهر من الإثم، بل هي التطهر من تسلط نوع من العقلانیة يجعل من کل شیء آلة مجردة… وتکمن قوة الشعر في أن تأبي التحول إلی الآلة، أي بمقدوره أن یحرر نفسه من کل أشکال الاستهلاك والإستغلال. وحسب هذا القول فإن الشعر من تلک القوة العظیمة التي بقیت عندنا لنستخدمها ضد دکتاتوریة اللوغوس والعقلانیة ذات البعد التقني الواحد.
فالشعر في تجربته العمیقة، لا یتحدی دکتاتوریة العقلانیة المعاصرة، بل یتجنب الخضوع والعبودیة للتراث.
إن السعي لإعادة الشعر إلی أحضان ذلک التراث الصوفي الروحاني الذي هیمن لعصور في الشرق، وربطه بذلک التراث التقلیدي، محاولةٌ عقیمة تختتم بموت الشعر. ومثلما لا یصبح الشعر بوتقة لحمل التجربة السیاسیة، لا یصبح أیضا بوتقة لحمل التجربة الدینیة. فالروحانیة في الشعر الحدیث لا تستمد جذورها من التجربة الدینیة، بل تستمدها من جمیع التجارب الإنسانیة وکل المشاعر والرؤی والتأملات. لیس الشعر وسیلة للإرتباط بالله، بل هو وسیلة للإرتباط بالوجود مهدا ومرکزا لجمیع الأسئلة العظمی.
ویُعدُ الشعرُ الحدیث حرکة أيضا تتجه نحو الهویة، فیحرر اللغة من عراقیل وعُقد الهویة. صحیح أن الإنسان یکتب بلغة قوم علی الدوام، غیر أن الشعر الحقیقي یظهر وکأنه مکتوب بلغات کل الناس في العالم، یعني انه في بحثه الدؤوب عن ضالته لا یکتفي بالعثور علی ذاته هو فقط، بل ینفتح علی الآخر ویکتشفه أیضا. إنه یُحرر اللغة من بعدها القومي الضیق فیجد فيها بعدا کونیا إنسانیا، بمقدوره التجاوز والحدیث باسم الأماکن والأزمنة کلها.
الشعر سلاح کبیر بین أیدینا، للحفاظ به علی بقاء الخیال حیا. هو ذلک الجزء الهام من خیالنا لایُروض بقوانین المدرسة والدولة ومعادلات العلوم. فهو أصابع الإشارة تشیر علی الدوام الی الخارج والأبعد والمجهول.
نحن نعیش في عالم یترکز فیه الحدیث في الموت والنهایة علی الدوام، فالخوف من النهایة سلب منا کل تفکیر في البدایات.
و يصب الحدیثُ في السیاسة والفلسفة ومعظم المجالات العلمیة والمعرفیة في النهایة، وللإنسان الحق في التحدث عن النهایة في کل مکان، سوی الشعر، لأن الشعر دعوی أبدیة للبدایات. مع کل شعر یعاد تصور وخلق العالم من البدایات.
لیس الشعر شیئا للتسلیة وقضاء الوقت، بل هو من أجد وأجود نشاطات الإنسان یحققه عبر اللغة، انه قوة توازن لضبط الإنسان للهجوم علی نوع من الحیاة المقننة تنحصر مهمتها في تحویل الإنسان إلی کائن إقتصادي مستهلِک. الشعر هو تلک الطاقة الجدیة لابد أن تُسخر للرد علی العبث والسطحیة والمظهر الفارغ.
في الوقت الراهن لیس هناک أي جنس یضاهي الشعر في إيلاء الإهتمام بسؤال الحریة. ففي أغلب المجالات یتراجع سؤال الحریة ویغدو منسیا، أما الشعر فلا یمکنه تناسي مسألة الحریة، لأن الشعر في الأساس هو ممارسة الحریة وتطبیقها، وتقاس قوة کل شعر وجماله بمدی الحریة المستقرة في أعماقه.
إن شعریة الشعر تعادل مساحةَ الحریة الكامنة فيه.
الأمنیة الوحیدة التي نملکها لرؤیة العالم بمنظار جدید تنبع من الشعر. وتتجلی مهمة الشعراء في أن يبقوا أوفیاء لها.
مترجم: عبداللە تاهر برزنجی