في كل عام يحتفي موقع بالنده بالشعر واليوم العالمي للشعر. في العام الماضي اختار الشاعر السویدي (بو گوستافسون) ليوجه رسالة الى العالم. واختار في هذا العام الشاعر الكردي-العراقي صلاح فائق ليوجه خطابه و رسالته.
ماذا يطرح الشعراء في عالم يفقد قِيَمه الإنسانية، وعلى أي وتر يضرب الشعراء اليوم، وما مهمة الشعر؟
إن بالْنْدَه كموقع شعري سيكون وفيا للشعر والشعراء أينما كانوا.
محاولة لكتابة قصيدة
صلاح فائق
١
اذا استطاع شاب من كركوك ان يصير شاعراً، يكتب بالعربية،
خصوصا اذا من اسرة تركمانية، كردية، آشورية او ارمنية
فاني اعتبر ذلك انجازاً بطولياً. اعطيكم مثالاً عن نفسي ورفاقي
من جماعة كركوك الادبية. فحتى العاشرة من عمري لم اكن
اعرف العربية، قراءة وكتابة، فقد سجلني ابي في المدرسة
الابتدائية وانا في الثامنة من عمري، وبعد ان رفضَ لزمن طويل
بسبب قناعته ان تعلم مهنة افضل من الدوام في مدرسة
لسنوات. قبلها ارغمني ابي ان اتعلم قراءة القران ومع سيدة
غير ودية، وكانت هذه مهنتها. قضيت سنتين معها ولم اتعلم
الكثير، لانها كانها تعلمني الحفظ، كالعميان، وليس القراءة
العادية، اي من خلال تعلم اللغة العربية اولاً. ما يعني هذا
ان تلميذاً مثلي فقد اعواماً كي يتعلم قراءة العربية، بينما
التلميذ من اصل عربي لم يكن يواجه هذه المشكلة. فهو
يتكلم العربية منذ ظفولته، والتكلم بلغة هو اساس تعلمها،
من ناحية القواعد والتلفظ والكتابة في ما بعد.
الامر ينطبق على اصدقائي ايضاً: سركون بولص، جليل
القيسي، انور الغساني، جان دمو، يوسف الحيدري،
مؤيد الراوي والأب يوسف سعيد وغيرهم. تعلم اللغة
العربية في مدينتنا كان كارثة. فبدل ان تتكلم اللغة
اولاً، كانوا يعلموننا القراءة والكتابة، مما تطلب زمناً
طويلاً لتعلم التكلم. ثم ان تعلم اللغة كان للمدرسة فقط،
اي اننا لم نكن نمارسها خارجها، في البيت او مع
اصدقاء واقارب، فلم يكونوا عرباً. مشكلة اخرى كانت
في تعليمنا اللغة العربية الادبية وليس الممارسة في
العلاقات واللقاءات والحياة اليومية. طبعاً لم يكن
متوفرا لنا، ولا مسموحاً، تعلم وممارسة لغتنا القومية
لأ سباب شوفينية. اتذكر هنا ان امرا صدر من صدام
حسين بتسمية المواليد الجدد باسماء عربية، مهما كانت
القومية التي كانوا ينتمون اليها او الدين !
٢
من المصاعب التي يواجهها من يدخلون عالم الادب والشعر، هي
إن كان موهوباً اصلاً في هذا الشان او ذاك، او موهوباً في اي
نوع ادبي : الشعر او القصة القصيرة او الرواية او النقد،
المسرحية وغيرها. اظن ان المبتدىء سيكون محظوظاً اذا
استطاع احد الاساتذة او من له تجربة طويلة في هذه
الانواع ان يشخص الى ايها تلائم حالة المبتدئ الادبية
من خلال نصوصه. بالنسبة لي، كرستُ معظم وقتي في
البداية لقراءة الرواية والقصة القصيرة. ثم بدات اكتب قصصا
قصيرة تعج باجواء ومشاهد يهيمن عليها المخيال. حين التقيتُ
بعدد من جماعة كركوك، وبعد ان قراؤها، اشاروا إلي، خصوصا
الاب يوسف سعيد وسركون وجان، ان لا اضيع وقتي وطاقتي
في كتابة القصص، صارحوني بانني شاعر وعليّ تكريس
موهبتي لهذا النوع من الادب. هكذا بدات اكتب الشعر،
رافضاً اقتراحاً ان اتعلم الاوزان والبحور الشعرية.
تفاديتهما واعلنت بان كتابتي ستكون حرة، رغم اصرار
سركون لفترة بضرورة المرور بهذه التجربة. عليّ ان اقول
بان قراءاتي للشعر المترجم الى العربية كانت ذات دور كبير
في اختياري الكتابة الشعرية دون ممارسة التقاليد الشعرية
التي كانت معهودة انذاك، من استخدام البحور والرموز
والشخصيات التاريخية. اي بدات قصيدة بلا تقاليد وما زلتُ
في مجرتها المبهجة منذ نصف قرن.
٣
بالنسبة لي، اتجاهل اي تعريف للشعر او لشعري. هناك تعريفات
كثيرة حوله، تسقط كتابة الشاعر في نمطية مملّة اذا تبنى احدها
واقتنع به ومارس الكتابة الشعرية وفقهُ. تاتي الى صفحة بيضاء
وتحاول نقل همومك ورؤاك اليها، دون شروط مسبقة من تقاليد قديمة
وحديثة. افتح طريقاً لنفسك في غابة متخيلة لحياتك، لتكتشف جديدا
لا تتضمنه طرق اخرى، طرق الآخرين. ذلك لان تجربتك فريدة،
حياتك غنيّة، وهذه تتطلب اسلوباً فريداً لتعرضَ نفسها وما في يدك
التي تكتب من ثراء مشاهد وصور متميزة، انها انت وليست غيرك.
ولاننا ازاء شغلٍ لغوي، وقد ورثنا اداتها، اللغة، فانها مفتوحة
للمشاركة وتبادل الخبرات الابداعية لاغناء حيواتنا. انا اكتبُ كل
يوم تقريبا وانشره بواسطة عجيبة اسمها الانترنيت. نحن محظوظون
لأننا نملك هذه الاداة الساحرة، بل هذا العالم المدهش.
يهمني التقاط صور شعرية في الامكنة العامة التي تعج بالناس، وقد
تدربتُ طويلاً او دربتُ عينيّ على هذا الجهد الضروري بهدف بناء
القصيدة على مشاهد مادية، ان صحّ التعبير. انا لا استعين بعكازات
معروفة في هذا المجال، واقصد الغاء المجاز والتشبيه وغيرهما من
الالعاب اللفظية، او في الاقل تخفيفها الى اقصى حد. ثم هناك
استخدام الموضوعات في الشعر، انا لا احتاجها، كما لا تهمني اغراض
الشعر القديمة فهي من وسائل الشحاذيين امام الاغنياء والسلاطين،
قديمهم وراهنهم. اريد من القصيدة ان تخبرني حول الشاعر الحقيقية
او المتخيلة وليس التجاوب مع طلبات جمهور، فهذا من المتطلبات الاعلامية
والاعلام جهازُ قمع وتزييف للحقائق والمشاعر. في السنوات الاخيرة قررت
عدم نشر كتبي من قبل دور النشر الرسمية والاهلية، لانها تخضعُ للرقابة
مما يبطل الغرض الاساسي للكتابة وهو التاكيد على حرية الكاتب، الشاعر
والفنان. الامكانات التقنية متوفرة الآن للقيام بنشر كتبنا بواسطة الانترنيت
والفيسبوك، خصوصا نسخها الالكترونية التي يمكن توزيع آلاف النسخ منها
مجاناً. اقول مجاناً لان المؤلف لا يحصل على شيء، مالياً، من هذه
المؤوسسات جراء عمله، بل ان هذه الدور تطلب منه ان يدفع مبلغاً
كبيرا لطبع ونشر اي عمل له.
٤
الى جانب اهتمامي باللقطة المادية لبناء القصيدة، او اعادة صياغتها
بحيث يتمُ تفادي عرض اصولها، بل تبدو مبتكرة، فانني استعينُ
احياناً بخزائن الذاكرة، وتتضمن بلا نهاية من الاحداث والتجارب
والصور ومن خلال التلاعب بالزمن لتظهر راهنة. كل هذا الاهتمام
لا يمكنه ان يحقق المرجو اذا لم نفسح للمخيال كل المجالات لينجز
حلمنا كتابةً. والطريقة الوحيدة لاستمرار خلق النص الشعري هو
مواصلة الكتابة يومياً، فالكتابة نفسها تجربة غنية بالمفاجئات
وهي تغتني بنفسها. ان التوقف عن الكتابة لايام سيربك سياق
الانتاج الشعري ويحيله الى كسلٍ يحبط زخم واندفاع الصور
الذي تعوّد عليه، ان الكتابة عمل شاق، وقلة قليلة من البشر
تكتب وتنتج اعمالاً في مختلف الحقول الادبية. ومن هذه الناحية
فانها تشكل تحدياً دائماً لمواصلة النشاط الابداعي، امرٌ يشترط
شجاعةً واخلاصاً لهذه المهمة الانسانية.